هوية الذكرى

 
لا ينتمي إلى هذا الفوج المكون من عدد لانهائي من البشر، ولكن ينتهي به الأمر كل صباح ومساء في وسطه. توقف يوماً لوهلة، ورأى كل الأجساد التي كانت تتحرك لوجهة معينة كأنه يراها للمرة الأولى، تأمل الملامح التي أبدتها الوجوه، وأدرك أخيراً أن لا أحد منهم كان هناك بالفعل. كان كل شيء يدل أن كل واحداً منهم كان محلقاً في عالم آخر، يشكل حاجزاً بينه وبين كل ما يحيط به من ضوضاء. لم يدرك وجود الذكريات وماهيتها حتى ذلك اليوم؛ فهي العالم التي كان كل شخص من ذلك المشهد غارقاً فيه، دون أي مقاومة أو وعي. "قد يكون ما يشغل بالهم ويمنعهم من إدراك ما يحصل حولهم هو تفكيرهم بما سيحدث بعد لحظات، أو بأمر مستقبلي يبعد عشرات السنين" همس لنفسه، ثم ارتفع صوته قليلاً "لكن لا وجود للمستقبل إلا إذا وجد الماضي، كلاهما مرتبطان ببعضهم البعض. لا أعرف ما هي الذكريات، لا أعرف شكلها، ولا مخبأها الذي تنطلق منه فجأة على شكل دغدة في المعدة، وتجعلني أبتسم لنفسي لدقائق عدة. أو اختناق يجعل الوجود ثقيلاً، بطيئاً.

هي أحرف، هي كلمات، هي أشخاص، هي أماكن، هي أحداث تبنى عليها حياة كاملة..."

بدأ صوته يعلو، لكنه لم يشكل عائقاً لهذا الفوج الذي لم يكترث لكلامه، أو حتى ينتبه لوجوده. "هي البريق الباهر الذي يمر أمام عيني، ثم يترك من خلفه السراب المتلألئ، ويضيء العتمة، ويبهج قلبي قبل نومي، أو يكدره؛ فلا أنام، ولا أصحو، بل أبقى بينهما في غيبوبة. هذه الذكريات التي لا يحددها زمان؛ فما إن يحدث شيء فهو ذكرى، وإن لم يمضي على حدوثها إلا أجزاءً من الثانية. هي ما يجعلني ما أنا عليه الآن، وما سأكونه بعد أيام."

نظر شخص إلى عينيه، انتبه إليه؛ فضرخ مباشرة:"النسيان وهم لا وجود له. النسيان هو وسيلتنا لإقناع أنفسنا بأننا قادرين على إكمال الطريق. يجب علي وعليك، وعلينا جميعا أن نتقبلها مهما كانت مرَّة، وأن لا تجعلنا نتجاهل كل شيء مهما كانت جميلة ولا تُنسى." ما إن انتهى لم يجد من كان واقفاً، لم يدري أنه هرب ما إن بدأ بالصراخ.

هدأ قليلاً، ثم أكمل قائلاً:"لا أريد أن أنسى شيئاً. لا أريد أن أنسى شيئاً." نظر إلى الوجوه التي تغيرت مراراً منذ وقوفه، ابتسم لهم، ولنفسه. ثم عاد ليكون جزءاً من ذلك الفوج، المتوجه إلى بداية يوم جديد، والذي سيكون ذكرى أخرى إلى الملايين السابقة.

------
TEXT: KHALED ALQAHTANI
ART: SARAH AHMED